المدخل | التعليق  الاسبوع  | الجديد في الاتجاهات  | افتتاحيات الصحف  | الاتصال بنا  | اشارات  | مقالات عبدالاله البياتي 

نهاية العهد....لماذا؟

نحن الذين عايشنا وتتبعنا التحولات الهامة التي جرت في العراق منذ الخمسينات حتى الان سواء كنا داخل العراق او خارجه نعرف ان الوضع والجو السياسي في العراق الان هو جو نهاية العهد الذي ساد،ولو لاسباب وعوامل مختلفة ، في اوضاع حكومة العراق قبل 1958 واوضاع حكومة عبدالكريم قاسم قبل 1963 واوضاع حكومة عارف قبل 1968.فنهاية العهد تبدأ عندما يسود الشعور بان رحيل الحكم هو احسن من بقائه وان افاقا جديدة ستتفتح امام العراق بهذا الرحيل.وهذا الشعور يتولد عندما تفشل الحكومات باقناع عامة الناس بان سياساتها تخدم مصالح الناس وحرياتهم.وفي وضع العراق الان هناك دلائل عديدة ،من ابرزها هجرة عدة ملايين، تدل ان الناس قد فقدوا الثقة بان تحقق سياسات الحكم الحالي الامن والحرية والطمأنينة والرفاهية لابناء العراق.
وعند تساؤلنا عن العوامل التي خلقت وتخلق جو نهاية الحكومات التي توالت على حكم العراق نجد ان الحكومات ذاتها هي التي تخلق نهاية عهدها. فهي جميعا حققت انجازات نسبية وهي جميعا تمتعت ببعض التأييد لبعض الوقت ولكنها جميعا لم تستثمر انتصاراتها وسياساتها لبناء دولة ديموقراطية وانما عملت على بناء سلطة مطلقة تستند الى اجهزة القمع والارهاب.وهي بذلك جعلت الطلاق بين الدولة والمجتمع امرا لا مفر منه ودفعت المجتمع، او قطاعات واسعة منه، لان يكون نقيضا لها..وعندما يسود هذا التناقض بين الدولة والمجتمع لن تنفع عندئذ الاجراءات الامنية و لا الالاعيب الدعائية ولا الترقيعات التبريرية في منع التسارع نحو جو نهاية العهد.
وفي الواقع ان اي مراقب او متتبع ينظر الى هذه الفترة الطويلة منذ 1958 وحتى الان يجد ان السلطة في العراق قد صعدت ،مع كل تغيير ،من هيمنتها على المجتمع حتى اصبح العراق الان في وضع قد حلت فيه الدولة محل المجتمع وحلت فيه قيادة الدولة محل الدولة.تاريخيا ليست قيادة الدولة الحالية هي المسؤولة الوحيدة عن ذلك.فهناك قوى كثيرة ساعدت نظريا اوعمليا في وصول العراق ودولته الى الوضع الذي هو فيه.ألم تسكت الدول الكبرى على محاربة الاكراد وتصفية المنظمات والقوى البعثية والناصرية واليسارية والاسلامية ؟ الم تسكت القوى السياسية العراقية عن الاضطهاد الذي تعرض له الاخرين طالما ان هذا الاضطهاد لم يشملها بعد؟ الم يكن هذا السكوت عاملا في وصول الدولة الى ماهي عليه؟
ومع ذلك نحن نترك تشخيص هذه المسؤوليات للتاريخ والمؤرخين فما يهمنا هو تشخيص الية عمل الدولة الحالية لان ذلك امرا ضروريا لتحديد شكل الدولة البديل. فما هي الملامح الاساسية للدولة العراقية حاليا وما هي الية عملها؟ يمكننا تلخيص ذلك بما يلي
-ان لا شرعية في العراق الا شرعية قيادة الدولة .وقيادة الدولة تستمد شرعيتها من نفسها ومن بقائها في السلطة و هي لذلك تحصر كل السلطات والقرارات في كل الامور، الصغيرة والكبيرة،بيدها وان الدولة وعلى التحديد قيادتها لها الحق في صياغة حياة المجتمع حسب ارادتها دون الخضوع لاية مراقبة او معيار وان ارادة القيادة هي القانون الوحيد السائد في المجتمع وهي لن تخضع حتى للقوانين التي تصدرها
- ان المؤسسات والنشاطات والعلاقات في الدولة والمجتمع ينبغي ان تخضع للقيادة و تقوم القيادة بمراقبتها وتوجيهها عن طريق الاجهزة الامنية والمخابراتية المرتبطة مباشرة بالقيادة وان اموال الدولة وامكانياتها هي تحت تصرف القيادة ولا يخضع هذا التصرف لاية مراقبة
-ان كل مؤسسة اونشاط او علاقة مستقلة عن الدولة هي خطر على القيادة ينبغي تصفيته او شله بمصادرة حرية التفكير والتعبير والتنظيم واشاعة الارهاب في المجتمع ، وان العنف الثوري هو اسلوب عمل الدولة ولذلك فان هذا العنف لا تحده قيم او اعراف و لا يخضع لقانون غيرمصلحة وارادة القيادة .
ان هذا الشكل من السلطة ،رغم انه يستمد مفرداته من التجربة الستالينية المتخلفة ، هو في الواقع اعادة لدول السلاطين التي قامت في العراق في عهود الظلام.وهولم يؤدي الا الى اختناق المجتمع وشلل الدولة وانعزال السلطة وبالتالي سير هذه السلطة نحو الانهيار لانها تخلق بنفسها اسباب فشلها وذلك للاسباب التالية:
اولا ان تبني العنف، سواء اكان لفظيا او ماديا ،كسبيل لحل كل المشاكل والصراعات الاجتماعية هو سياسة فاشلة في حل التناقضات ومدمرة للمجتمع وللدولة.فالعنف يمكن ان ينجح في تصفية بعض الحركات السياسية ولكنه لن يستطيع القضاء على التيارات الثقافية الراسخة بعمق في المجتمع..فكيف يمكن للعنف ان يقضي على مشاعر الانتماء القومي او العشائري اوالحضري او المذهبي وهي مشاعر طبيعية تمثل نزعة انسانية الى البحث عن هوية؟ وهل من مهمات الدولة او مصلحتها محاربة الظواهر الاجتماعية، الراسخة او الحديثة ؟اليس واجب الدولة هو ترك المجتمع يتطور بحرية وبسلام على ان تحرص سواء في تركيبها او سياساتها لالغاء التمييز بين المواطنين بسبب هويتهم ؟
ثانيا ان طريقة سن القوانين وتنفيذها وطريقة ادارة المال العام تتناقض كليا مع المفاهيم العميقة السائدة في مجتمعاتنا عن مفهوم العدل والحق فالمال العام في قيمنا الاسلامية هو ملك للامة ولا احد يملك حق التصرف به لمصلحته الشخصية .ولذلك فلا شك ان المجتمع ينظر، مهما حاولت قيادة الدولة ان توسع من دائرة المنتفعين ، الى استحواذها على اموال وعقود النفط وتصرفها بالمال العام بدون رقابة او حساب كسرقة ولصوصية .
ثالثا ان قيام الدولة بتوسيع اجهزتها سواء لتقديم الخدمات او لتطوير المجتمع او للسيطرة عليه خلق طبقة مدنية متوسطة متعلمة واسعة .وهذه الطبقة لا يمكن نزع حرياتها طويلا بسهولة لانها تميل دائما الى التحرر من سلطة المال والقوة فكيف اذا كانت هذه الطبقة ،ومن بينها افراد الاجهزة الامنية والعسكرية ، هي اول من يتحمل ثقل الارهاب ويشهد على الظلم ومحاربة الارزاق والتعسف في التوظيف والنقل والترفيع في اجهزة الدولة. رابعا ان اقناع الناس عن طريق الالاعيب الاعلامية قد ينجح لبعض الوقت ولكن استمرار هذا الاقتناع تحدده في النهاية تجربة الناس اليومية والواقعية
خامسا ان اجهزة دولة تعمل في ظل الارهاب ويكون معيار كفائتها الوحيدة هو رضا القيادة والاجهزة الامنية هي اجهزة عاجزةسواء في مجال التخطيط اوالتنفيذ
وتتجلى الية عمل هذا الشكل من الدولة في الحروب الفاشلة التي خاضتها. فهذه الحروب كشفت ان السلطة لا تتمتع بالقدرة على تحليل توازنات القوى واصطفاف المصالح الدولية والاقليمية او تشخيص الاحتمالات والبدائل فهي تدخل المعارك انطلاقا من مشاعر وتقديرات ذاتية دون حساب لنتائجها بالنسبة للبلد .كما كشفت هذه الحروب ان هذا الشكل من الدولة يتميز بغياب المؤسسات او القوى او الاشخاص ،في اجهزة الدولة المدنية او العسكرية ، القادرة على مناقشة وتحليل جدوى هذه الحروب او القدرة على الانتصار فيها او الحكمة من اشعالها ، وعلى نصح القيادة او معارضتها او تصحيح سياساتها ان كانت سياساتها خاطئة. ان تركيب الدولة الحالي قد قاد العراق الى ماسي ستتكرر ان بقيت الدولة تعمل بنفس الالية فما يحتاجه العراق هو دولة تستخدم الحكمة والعلم لمجابهة التحديات المتنوعة التي تواجه المجتمع وهذه الدولة لا يمكن ان تكون الا دولة ديموقراطية حقا فبدون الديموقراطية ستتفاقم محنة البلد ويقضى على كل ما تبقى من دولة في العراق. ولكي لا نخدع انفسنا او نخدع الناس ليست هناك ديموقراطية الا الديموقراطية التي تقوم على مساواة المواطنين رجالا ونساء في حقوقهم السياسية دون تمييز وعلى قيام شرعية كل مؤسسات الدولة التمثيلية والتشريعية على اساس حرية التصويت والترشيح في انتخابات دورية ونزيهة وعلى عدم تدخل الدولة في شؤون الدين والمؤسسات الدينية وكل ما له علاقة بالفكر والضمير والحياة الخاصة. و ما غير هذا هو ترقيع او تجميل او ديكور لانظمة ديكتاتورية .
فالديموقراطية هي تنظيم سياسي وظيفي للدولة ومؤسساتها والية عملها معروف اسسه وخصائصه. واول وظيفة للديموقراطية هي تامين السلام والتماسك الاجتماعي.فاحترام حقوق الانسان واطلاق الحريات العامة والخاصة بما فيها حرية الصحافة والتنظيم السياسي والنقابي والاضراب والتظاهر وتحقيق الانتخاب الدوري الحر للسلطات التشريعية والتنفيذية يؤمن للمواطنين وللقوى الاجتماعية المشاركة في سن القوانين والتشريعات وتقرير السياسات التي تعكس ارادتهم الحرة كما تؤمن لهم القدرة على العمل لتتغيير هذه القوانين والتشريعات والسياسات عن طريق الحوار والاقناع والتصويت في الانتخابات التالية مما يلغي اسباب الهزات والانفجارات و التامر والعنف ويؤمن للدولة احتواء التغيرات الاجتماعية واتاحة المجال لكل القوى ان تعبر عن مصالحها وتصوراتها وحل الخلافات فيما بينها بشكل سلمي وحضاري.
وثاني وظيفة للديموقراطية هي النجاح في توظيف المال العام بشكل كفوء وفعال.فهذا التوظيف يخضع في مراحل الدراسة والاقرار والتنفيذ الى مراقبة اجهزة الدولة المتخصصة كجهاز الرقابة المالية والى مراقبة القضاء المستقل الذي يسهر على تطبيق الدستور والقوانين .كما يخضع الى تصويت البرلمان ومحاسباته والى راي الصحافة الحرة واصحاب الاختصاص والصلة ، الامر الذي يحد من توجيه المال العام لغير الصالح العام
وثالث وظيفة للديموقراطية هي توفير الحكمة والعدل في تسيير الشؤون العامة.فلان القوانين والسياسات تعكس ارادة ووعي المواطنين من خلال المؤسسات التشريعية المنتخبة فانها تعكس مفاهيم العدل السائدة في المجتمع والتي يقبل المجتمع الاحتكام اليها وهو امر يمنع المجاميع المغامرة من فرض رايها وتصوراتها على المجتمع دون موافقة المواطنين ففي الدولة الديموقراطية ليس هناك مجاميع تتمتع بامتيازات سياسية دائمية وانما هناك ممثلين للناخبين منتخبين بشكل مؤقت لتنفيذ سياسة محددة لا تخرق الدستور ولا ضوابط العيش المشترك.
ورابع وظيفة لها هي سيادة القانون والمساواة فالسلطة التنفيذية لا تمثل الا طرفا من اطراف الدولة نتيجة الفصل بين السلطات ولا تستطيع اخضاع اجهزة الدولة او مؤسساتها او اموالها لمصالحها الخاصة ويتوقف شرعيتها و نجاحها وبقائها على عملها من اجل الصالح العام وتنفيذ القوانين بنزاهة وتحقيق المساواة بين المواطنين.
وخامس وظيفة للديموقراطية هي التفتح الحضاري فحرية التفكير والتعبير والتنظيم وتوفر الحوار والنقد وسيادة حقوق الانسان هي عوامل تطور التفاعل والتقدم الحضاري والثقافي وتنمي روح المبادرة والمسؤولية وتخلق اجيالا حرة متفتحة تساهم في صنع عراق المستقبل.
ليست عندنا وصفة جاهزة لكيفية تحقيق هذه الديموقراطية سوى العمل مع ،ودعم كل الذين يريدون تحقيق الديموقراطية انطلاقا من شعب العراق فقد اصبح واضحا تماما ان قيادة الدولة الحالية ليست قادرة على ولا راغبة في الشروع في اتخاذ خطوات ديموقراطية حقيقية لان ذلك يعني رحيلها او على الاقل فقدانها لسلطتها . اننا في نهاية عهد وكل املنا ان تكون ولادة المستقبل، الذي لم يكشف بعد عن وجهه بجلاء ،يسيرة .
عبدالاله البياتي
باريس 17/5/2000
3

نشر في جريدة الوفاق